فصل: تفسير الآيات (77- 80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (77- 80):

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أثبت سبحانه بهذا الدليل قدرته على ما هدد به أولًا من التحويل من حال إلى أخرى، فثبتت بذلك قدرته على البعث، وختم بإحاطة العلم الملزوم لتمام القدرة، أتبع ذلك دليلًا أبين من الأول فقال عاطفًا على {ألم يروا} {أولم ير} أي يعلم علمًا هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر.
ولما كان هذا المثل الذي قاله هذا الكافر لا يرضاه حمار لو نطق، أشار إلى غباوته بالتعبير بالإنسان الذي هو- وإن كان أفطن المخلوقات لما ركب فيه سبحانه من العقل- تغلب عليه الإنس بنفسه حتى يصير مثلًا فقال: {الإنسان} أي جنسه منهم ومن غيرهم وإن كان الذي نزلت فيه واحدًا {أنا خلقناه} بما لنا من العظمة {من نطفة} أي شيء يسير حقير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا أباه من تراب وأمه من لحم وعظام {فإذا هو} أي فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة المطفة وهي أنه {خصيم} أي بالغ الخصومة {مبين} أي في غاية البيان عما يريده حتى أنه ليجادل من أعطاء العقل والقدرة في قدرته، أنشد الأستاذ أبو القاسم القشيري في ذلك:
أعلمه الرماية كل يوم ** فلما اشتد ساعده رماني

ولما كان التقدير: فبعد- مع أنا تفردنا بالإنعام عليه- عيرنا وخاصم- بما خلقناه له من اللسان وآتيناه من البيان- رسلنا وجميع أهل ودنا، عطف عليه قوله مقبحًا إنكارهم البعث تقبيحًا لا يرى أعجب منه، ولا أبلغ ولا أدل على التمادي، في الضلال والإفراط في الجحود وعقوق الأيادي: {وضرب} أي هذا الإنسان؛ وسبب النزول أبي بن خلف الجمحي الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بأحد مبارزة، فهو المراد بهذا التبكيت بالذات وبالقصد الأول {لنا} أي على ما يعلم من عظمتنا {مثلًا} أي آلهته التي عبدها لكونها لا تقدر على شيء مكابرًا لعقله في أنه لا شيء يشبهنا {ونسي} أي هذا الذي تصدى على نهاية أصله لمخاصمة الجبار، وأبرز صفحته لمجادلته، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول، وأن بكون بمعنى الترك {خلقه} أي خلقنا لهذا المخاصم الدال على كمال قدرتنا، وأن آلهته التي أشرك بها لا تقدر على شيء فافترق الحال الذي جمعه بالمثل أيّ افتراق وصارا مقولًا له: يا قليل الفطنة! أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون؟ ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بالإخبار عن استحالته لأن يقدر أحد على إحياء الميت كما أن معبوداته لا تقدر على ذلك فقال: {قال} أي على سبيل الإنكار: {من يحيي}.
ولما كانت العظام أصلب شيء وأبعده عن قبول الحياة لاسيما إذا بليت وأرفتت قال: {العظام وهي} ولما أخبر عن المؤنث باسم لما بلي من العظام غير صفة، لم يثبت تاء التأنيث فقال: {رميم} أي صارت ترابًا يمر مع الرياح.
ولما كان موطنًا يتشوف فيه السامع لهذا الكلام إلى جوابه، استأنف قوله مخاطبًا من لا يفهم هذه المجادلة حق فهمها غيره: {قل} أي لهذا الذي ضرب هذا المثل جهلًا منه في قياسه من يقدر على كل شيء على من لا يقدر على شيء، وأعاد فعل الإحياء نصًا على المراد دفعًا للتعنت ودلالة على الاهتمام فقال: {يحييها} أي من بعد أن بليت ثاني مرة، ولفت القول إلى وصف يدل على الحكم فقال: {الذي أنشأها} أي من العدم ثم أحياها {أول مرة} أي فإن كل من قدر على إيجاد شيء أول مرة فهو قادر على إعادته ثاني مرة، وهي شاهدة بأن الحياة تحل العظم فيتنجس بالموت مما يحكم بنجاسة ميتته {وهو بكل خلق} أي صنع وتقدير ممكن أن يخلق من ذلك ومن غيره ابتداء وإعادة {عليم} أي بالغ العلم، فلا يخفى عليه أجراء ميت أصلًا وإن تفرقت في البر والبحر، ولا شيء غير ذلك، فالآية من بديع الاحتباك: الإحياء أولًا دال على مثله ثانيًا، والإنشاء ثانيًا دال على مثله أولًا، و{أول مرة} في الثاني دال على ثاني مرة في الأول، فهو على كل شيء قدير كما برهن عليه في سورة طه، فهو يوجد المقتضيات لكل ممكن يريده، ويرفع الموانع فيوجد في الحال من غير تخلف أصلًا، فقد بلغ هذا البيان في الدلالة على البعث الجسماني والروحاني معًا النهاية التي ليس وراءها بيان، بعد أن وطأ له في هذه السورة نفسها بما لا يحتمل طعنًا بقوله: {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} {من بعثنا من مرقدنا} {فإذا هم جميع لدينا محضرون} {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون} {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}.
ولما كان مآل هذا المثل الذي علق الإنكار فيه بالرميم استبعاد تمييز الشيء- إذا صار ترابًا واختلط بالتراب- عن غيره من التراب، وصف نفسه المقدس بإخراج الشيء الذي هو أخفى ما يكون من ضده، وذلك بتمييز النار من الخشب الذي فيه الماء ظاهر بأيدي العجزة من خلقه، فقال معيدًا للوصول تنبيهًا على التذكير بالموصوف ليستحضر ما له من صفات الكمال فيبادر إلى الخضوع له من كان حيًا: {الذي جعل لكم} أي متاعًا واستبصارًا {من الشجر الأخضر} الذي تشاهدون فيه الماء {نارًا} بأن يأخذ أحدكم غصنين كالسواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ- وهو ذكر- على العفار- وهو أنثى- فتخرج النار! قال أبو حيان: وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ليس شجر إلا وفيه نار إلا العناب- انتهى.
ولذلك قالوا في المثل المشهور: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار {فإذا أنتم} أي فيتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنكم {منه} أي الشجر الموصوف بالخضرة بعينه {توقدون} أي توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى، ما هو بخيال ولا سحر بل حقيقة ثابتة بينة، وكأنه قدم الجار لكثرة إيقادهم منه، إيقادهم من غيره لذلك ولعظمته عدمًا.
ولما كان ذلك من غير كلفة عليهم، قدم الجار تخصيصًا له وعدًا لغيره كالمعدوم، فالذي قدر على تمييز النار من الماء والخشب وخبء النار فيهما لا النار تعدو على الخشب فتحرقه ولا الماء يعدو على النار فيطفئها قادر على تمييز تراب العظام من تراب غيرها، ونفخ الروح كما نفخ روح النار في الحطب المضاد له بالمائية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم إنه تعالى لما ذكر دليلًا من الآفاق على وجوب عبادته بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما} [يس: 71] ذكر دليلًا من الأنفس.
فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} قيل إن المراد بالإنسان أبيّ بن خلف فإن الآية وردت فيه حيث أخذ عظمًا باليًا وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنك تقول إن إلهك يحيي هذه العظام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ويدخلك جهنم، وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ألا ترى أن قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] نزلت في واحدة وأراد الكل في الحكم فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر فهذه الآية رد عليه إذا علمت عمومها فنقول فيها لطائف:
اللطيفة الأولى: قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة، أو لم يروا خلق الأنعام لهم وعلى هذا فقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان} كلام أعم من قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم فنقول سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم، فإن الإنسان قد يغفل عن الإنعام وخلقها عند غيبتها ولكن لا يغفل هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون.
فقال: إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يعيب عن نفسه، فما باله أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة، فإن سائر النعم بعد وجوده وقوله: {مِن نُّطْفَةٍ} إشارة إلى وجه الدلالة، وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة الصور كان يمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو، وكذلك الحال في كل عضو، ولما كان خلقه عن نطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة إلى هذا أشار بقوله تعالى: {يسقى بِمَاء واحد} [الرعد: 4].
وقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} فيه لطيفة غريبة وهي أنه تعالى قال اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء ما خلق منه آية ظاهرة ومع هذا فهنالك ما هو أظهر وهو نطقه وفهمه، وذلك لأن النطفة جسم، فهب أن جاهلًا يقول إنه استحال وتكون جسمًا آخر، لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة؟ فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب فقوله: {خَصِيمٌ} أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان النطق لأنه أعلى أحوال الناطق، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصمًا لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه وقوله: {مُّبِينٌ} إشارة إلى قوة عقله، واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه، لأن المبين بان عنده الشيء ثم أبانه فقوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ} إشارة إلى أدنى ما كان عليه وقوله: {خصيم مبين} إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} إلى أن قال تعالى: {ثُمَّ أنشأناه خلقًا آخر} [المؤمنون: 14] فما تقدم من خلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظامًا إشارة إلى التغيرات في الجسم وقوله: {ثُمَّ أنشأناه خلقًا آخر} إشارة إلى ما أشار إليه بقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي ناطق عاقل.
ثم قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} إشارة إلى بيان الحشر وفي هذه الآيات إلى آخر السورة غرائب وعجائب نذكرها بقدر الإمكان إن شاء الله تعالى، فنقول المنكرون للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلًا ولا شبهة واكتفى بالاستبعاد وادعى الضرورة وهم الأكثرون، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم في كثير من المواضع بلفظ الاستبعاد كما قال: {وَقَالُواْ أإذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلقٍ جديد} [السجدة: 10] {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16] {أَئنَّكَ لَمِنَ المصدقين} [الصافات: 52] {إئذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا أئنا لمدينون} [الصافات: 53] إلى غير ذلك فكذلك هاهنا قال: {قَالَ مَن يُحيِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} على طريق الاستبعاد فبدأ أولًا بإبطال استبعادهم بقوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء، ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصور والقوام وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل الذي ن بهما استحقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محل الحياة أصلًا، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه، ثم إن استبعادهم كان من جهة ما في المعاد من التفتت والتفرق حيث قالوا: {مَن يُحيِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} اختاروا العظم للذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في المعيد من القدرة والعلم فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} أي جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين أحدهما: أنه بعد العدم لم يبق شيئًا فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود، وأجاب عن هذه الشبهة.
بقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئًا مذكورًا كذلك يعيده وإن لم يبق شيئًا مذكورًا وثانيها: أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران الربا ع كيف يجمع؟ وأبعد من هذا هو أن إنسانًا إذا أكل إنسانًا وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيد فأجزاء المأكول، إما أن تعاد إلى بدن الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تخلق منها أعضاؤه، وإما أن تعاد إلى بدن المأكول منه فلا يبقى للآكل أجزاء.
فقال تعالى في إبطال هذه الشبهة: {وهو بكل خلق عليم} ووجهه هو أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية، وفي المأكول كذلك، فإذا أكل إنسان إنسانًا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليًا من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل.
{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل وينفخ فيها روحه ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيها روحه، وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع، المبددة في الأصقاع بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)}.
ووجهه هو أن الإنسان مشتمل على جسم يحس به وحياة سارية فيه، وهي كحرارة جارية فيه فإن استبعدتم وجود حرارة وحياة فيه فلا تستبعدوه، فإن النار في الشجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب وأغرب وأنتم تحضرون حيث منه توقدون، وإن استبعدتم خلق جسمه فخلق السموات والأرض أكبر من خلق أنفسكم فلا تستبعدوه فإن الله خلق السموات والأرض فبان لطف قوله تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ}. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: يُرْوَى أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ أَوْ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ مَرَّ بِرِمَّةٍ بَالِيَةٍ فَأَخَذَهَا، وَقَالَ: الْيَوْمَ أَغْلِبُ مُحَمَّدًا، وَجَاءَ إلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا كَمَا بَدَأَهُ، وَفَتَّتَهُ بِيَدِهِ، حَتَّى عَادَ رَمِيمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْعِظَامِ حَيَاةً، وَأَنَّهُ يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ تَحِلُّ الْحَيَاةُ بِهِ فَيَخْلُفُهَا الْمَوْتُ يُنَجَّسُ وَيُحَرَّمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وَسَاعَدَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ.
وَقَدْ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ} يَعْنِي أَصْحَابَ الْعِظَامِ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ مَوْجُودٌ فِي الشَّرِيعَةِ.
قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِضَرُورَةٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَةٌ تَدْعُو إلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى الظَّاهِرِ؛ إذْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَالْحَقِيقَةُ تَشْهَدُ لَهُ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَاسَ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ الْحَيَاةِ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. اهـ.